مرحلة المراهقة الحديثة.. أزمة صحة نفسية أم تطور طبيعي؟

تجسّد مرحلة المراهقة فترة انتقالية حاسمة من النمو والتطور بين الطفولة والنضج، وتحدّدها منظمة الصحة العالمية بأنها الفترة بين سن 10 و 19 عامًا، ورغم أنها ارتبطت تاريخيًا بالبلوغ الجسدي والبحث عن الهوية والاستقلال العاطفي عن الوالدين، إلا أن العصر الرقمي قد أعاد تشكيل معالمها بالكامل، حيث فرضت التكنولوجيا الحديثة، وعلى رأسها الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، تحديات غير مسبوقة على الصحة النفسية والاجتماعية للمراهقين، مما استدعى تحركًا دوليًا عاجلًا لفهم هذه التحولات ووضع استراتيجيات لمواجهتها.
ويبرز هذا في المجال تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية كشف عن ارتفاع مقلق في الاستخدام الإشكالي لوسائل التواصل الاجتماعي بين المراهقين؛ لفهم كيفية تأثير العالم الافتراضي على من هم في مرحلة المراهقة، والذين يمثّلون جيلًا ينشأ في خضم ثورة رقمية مستمرة، وكيف غيرت هذه الأدوات من طبيعة واحدة من أكثر مراحل العمر حساسية وتعقيدًا.
ما هي مرحلة المراهقة؟
لطالما اعتبرت مرحلة المراهقة فترة تتميز بالاضطراب والتوتر، حيث يواجه الشباب تغيرات جسدية ونفسية هائلة، إذ يبدأ المراهقون في هذه الفترة رحلة الانفصال العاطفي عن والديهم، في خطوة ضرورية لتكوين قيمهم الشخصية وتحقيق الاستقلال الذاتي.
ومع ذلك، غالبًا ما يجد المراهقون أنفسهم في وضع اجتماعي غامض، فهم لم يعودوا أطفالًا، لكنهم لم يصبحوا راشدين بعد، مما يخلق حالة من القلق المستمر لسنوات، وقد وصف المحلل النفسي الشهير إريك إريكسون سن المراهقة في المجتمعات الحديثة بأنه "فترة سماح"، أي أنها فترة خالية من المسؤوليات تتيح للشباب تجربة خيارات متعددة قبل الاستقرار على مسار مهني وحياتي.
وتاريخيًا، كانت العديد من المجتمعات تضع طقوسًا للانتقال من الطفولة إلى البلوغ، مثل احتفالات قبائل الكوموني في الهند، لمساعدة الشباب على فهم دورهم الجديد، لكن في العصر الحديث، أصبح المراهقون يقضون ساعات طويلة في المدارس يتعاملون مع معلومات قد تبدو مجردة وغير ذات صلة بحياتهم، بينما يفتقرون إلى مسؤوليات حقيقية تمنحهم شعورًا بالأهمية.
وصف “إريكسون" هذا الفراغ، بأنه فرصة للتجريب، قد يتحول إلى إحباط كبير إذا طال أمده، مما يدفع المراهقين للبحث عن طرق أخرى للشعور بالحياة والأهمية، وهنا يأتي دور الهواتف الذكية كمتنفس رئيسي.
وعلى النقيض من ذلك، كانت الأجيال السابقة تفتقر إلى فترة السماح هذه، حيث كان من المتوقع أن يتحمل الشباب مسؤوليات الكبار في سن مبكرة، فقد كان الإسكندر الأكبر لا يزال مراهقًا عندما انطلق لغزو العالم، وكان يُتوقع من الفتيات في معظم أنحاء العالم الزواج وتولي مسؤوليات المنزل في أبكر وقت ممكن.
ويشير غياب المسؤوليات الحقيقية عن حياة الكثير من المراهقين اليوم، إلى جانب القيود المفروضة على حركتهم، إلى أن الهواتف الذكية أصبحت الملاذ الأساسي لهم والوسيلة المحورية للتواصل والترفيه وتكوين الهوية.
كيف تؤثر التكنولوجيا على من هم في سن المراهقة؟
جاء تقرير منظمة الصحة العالمية، الصادر في أواخر 2024، ليدق ناقوس الخطر حول تأثير التكنولوجيا على هذه الفئة العمرية الحساسة، فبناءً على دراسة ضخمة شملت ما يقرب من 280 ألف مراهق في 44 دولة، كشف التقرير عن ارتفاع حاد في الاستخدام الإشكالي لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث قفزت النسبة من 7% في عام 2018 إلى 11% في عام 2022، وتظهر الأرقام أن الفتيات أكثر عرضة لهذا النوع من الاستخدام، بنسبة 13% مقارنة بـ 9% للفتيان.
ويُعرَّف «الاستخدام الإشكالي» بأنه نمط سلوكي يتسم بأعراض شبيهة بالإدمان، مثل عدم القدرة على التحكم في وقت الاستخدام، والشعور بأعراض الانسحاب عند التوقف، وإهمال الأنشطة الأخرى، ومواجهة عواقب سلبية في الحياة اليومية.
وتؤكد هذه الإحصائيات الصادمة أن مرحلة المراهقة لم تعد مجرد صراع داخلي مع التغيرات البيولوجية والنفسية، بل أصبحت أيضًا صراعًا خارجيًا مع خوارزميات مصممة لإبقاء المستخدمين على اتصال دائم.
كما وجد التقرير أن 12% من المراهقين معرضون لخطر «الألعاب الإشكالية»، مع كون الفتيان أكثر عرضة بنسبة 16% مقابل 7% للفتيات، وأثار هذا الفارق بين الجنسين تساؤلات حول الدوافع المختلفة التي تجذب الفتيان والفتيات إلى العالم الرقمي لدى العلماء، الذين دعوا إلى ضرورة زيادة البحث لفهم طبيعة سن المراهقة اليوم عبر دراسة هذه الديناميكيات الرقمية الجديدة.
كيف يؤثر استخدام الهواتف الذكية على الصحة النفسية؟
حذر التقرير من أن الارتفاع في الاستخدام الإشكالي لوسائل التواصل الاجتماعي له تداعيات خطيرة على الصحة النفسية والاجتماعية للشباب، وقد ربطت أبحاث سابقة هذا النمط السلوكي بانخفاض مستويات الصحة العقلية، وارتفاع معدلات القلق والاكتئاب والتنمر، بالإضافة إلى تراجع الأداء الأكاديمي.
ويقول الدكتور هانز كلوج، المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا: "نشهد عواقب الفجوة في محو الأمية الرقمية، والأسوأ قادم على الأرجح، ما لم تعترف الحكومات والسلطات الصحية والمعلمون وأولياء الأمور بالأسباب الجذرية وتتخذ خطوات لتصحيحها".
كما يرتبط الاستخدام المفرط لأجهزة الهواتف الذكية في سن المراهقة باضطرابات النوم، حيث يؤدي إلى تقليل ساعات النوم وتأخير مواعيده، مما يؤثر سلبًا على الصحة العامة والقدرة على التركيز في المدرسة.
وفي حين أن مرحلة المراهقة تتطلب دعمًا نفسيًا واجتماعيًا، فقد حذرت منظمة الصحة العالمية من أن الاستخدام غير المنظم لوسائل التكنولوجيا قد أصبح أحد أكبر العوائق أمام تحقيق هذا الدعم، حيث يساهم المحتوى الذي يتم استهلاكه عبر وسائل التواصل الاجتماعي في خلق معايير غير واقعية للجمال والنجاح، مما يزيد من الضغوط النفسية على المراهقين في فترة حرجة من تكوين الذات.
كيف يمكن مساعدة المراهقين على تجاوز مشكلاتهم؟
على الرغم من النتائج المقلقة، يؤكد التقرير أيضًا على وجود جوانب إيجابية، حيث أظهر المستخدمون غير الإشكاليون لوسائل التواصل الاجتماعي مستويات أقوى من الدعم الاجتماعي من أقرانهم، وفي هذا السياق، تقول الدكتورة ناتاشا أزوباردي-موسكات، من منظمة الصحة العالمية: "من الأهمية بمكان أن نتخذ خطوات لحماية الشباب للسماح لهم بالتنقل في المشهد الرقمي بأمان".
ويقدم التقرير خارطة طريق واضحة لصناع السياسات والمعلمين ومقدمي الرعاية الصحية، تدعو إلى اتخاذ إجراءات عاجلة تشمل:
-
الاستثمار في بيئة مدرسية صحية: عبر دمج برامج محو الأمية الرقمية التي تغطي الاستخدام المسؤول لوسائل التواصل الاجتماعي والتفكير النقدي.
-
تعزيز خدمات الصحة النفسية: لتقديم الدعم للمراهقين الذين يعانون من مشكلات ناجمة عن الاستخدام الإشكالي للتكنولوجيا.
-
تشجيع الحوار المفتوح: داخل الأسر والمدارس والمجتمعات لزيادة الوعي وتقليل وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية.
-
تدريب المعلمين ومقدمي الرعاية الصحية: لتمكينهم من تقديم دعم فعال وشامل.
-
فرض مساءلة على المنصات: لضمان تطبيق قيود عمرية وتصميم أدوات رقمية مسؤولة.
في الختام، يتضح أن مرحلة المراهقة في القرن الحادي والعشرين تتطلب نهجًا جديدًا ومتكاملًا، فبينما تظل التحديات النفسية والاجتماعية التقليدية قائمة، أضافت التكنولوجيا طبقة جديدة من التعقيد تتطلب وعيًا وجهدًا مشتركًا من الجميع، بهدف تمكين المراهقين من "حكم وسائل التواصل الاجتماعي، وليس العكس"، كما لخص الدكتور "كلوج".